ذكريات العيد..البراءة والسعادة الحقيقية!!
بقلم خالد عاشور
صحيح أن التكنولوجيا سهلت حياتنا جدا، يأتينا النور بالضغط على زر في الحيطة أو بالريموت، ومياه باردة من التلاجة، من غير لوح الثلج أو الزير، وعربيات مكيفة تنقلنا بدلا من الفرس الهجين ، وتليفزيون شغال 24 ساعة، وفيس بوك رابطنا بالدنيا كلها، بدلا من الأخت أو الأخ نقال الكلام والاشاعات…!!
صحيح كل شيء بقى سهل ومتاح على حس التكنولوجيا، الخضار والفاكهة طوال العام…لكن فقدنا طعم وبراءة كل شيء…وعلى قدر تطور التكنولوجيا على قدر تطور وظهور امراض فتاكة جديدة…لهذا تأتي مناسبة كبيرة وتذهب بشكل باهت، وكأنها لم تأتي.
لا يشعر بهذا الشعور إلا من عاش الزمن الجميل، زمن الخضار والزرع اللي تشتم رائحته من بعيد …زمن اللمة الحلوة، ولمبة الجاز بنورها الخافت، والسكون الساحر الذي يدعو للتفكر، وجلسات السمر على ضوء القمر بين أفراد الأسرة، التي غرست فينا كافة القيم العظيمة، التي نحملها في صدورنا وفي معاملاتنا الآن…الخ.
العيد…وما أدراك ما العيد…ده حكاية لوحده…فالعيد والفرحة لم تكن يوم العيد نفسه، ولكن الاحتفال كان يبدأ قبل العيد بأسبوع على الأقل…
الكل في حالة استنفار…السيدات يرتبن مع بعضهن ترتيبات الكعك والبسكوت….والرجال والأطفال مابين حلاق وترزي. ..الخ.
اليوم الأول لمراسم كعك العيد مقدس، في بيت الحاجة كبيرة العيلة، فيتجمع الجميع نساء وأطفال العائلة في بيت الكبيرة، لتبدأ مراسم الاحتفال الحقيقي بالعيد…
تتولى الفتيات اليافعات أعمال تجهيز العجين للكعك في “اللقان”، وهو عبارة عن قدر كبير مصنوع من الفخار وليس من المعدن، فيعجن فيه للكعك والبسكوت.
بعد العجين…توضع الطبلية أو الطبالي، ويلتف جميع أفراد الأسرة حولها، ثم يتم تكوير العجين، ثم فرده وتشكيله في المناقيش، المصنوعة من الالومنيوم على أشكال مختلفة….
هذه المناقيش ليست أمرا بسيطا…لا لا…كانت كبيرة العيلة تحتفظ بها في خزانتها من العيد للعيد…وكانت تخرجها بتناكة وغرور منقطع النظير، وحاجب فوق وحاجب تحت، وكأنها تحمل معها مفاتيح قلعة محمد علي باشا…ماعلينا!!
يجلس على رأس هذه الجلسة التاريخية طبعا كبيرة العائلة، وهي تشعر بالزهو والفرحة التي تملأ وجهها، والتي تصدرها لنا جميعا، ويبدأ الرغي والضحك والتنكيت،
وطبعا الأمر لا يسلم من سيرة فلان وعلان واللي طلق واللي جوز واللي اشترى واللي باع، وإن الله غفور رحيم….طبعا!!
المهم…أن الوقت يمضي كالبرق…النساء والشباب لهم دور، والأطفال لهم دور وهو إدارة ولف ماكينة البسكوت…والكل في مرح وسعادة.
وهكذا…طوال الاسبوع…اليوم عند أم أحمد وغدا عند أم محمد، بنفس تشكيلة الفريق بقيادة الكبيرة طبعا…ثم في صباح يوم الوقفة…تتبادل النساء والجيران إنتاج الكعك والبسكوت…وكل واحدة منهن تعتقد أنها اخترعت الذرة، واثقة تماما من أنها أنتجت الأفضل وخاصة أمام زوجها وأقاربه…وأحيانا كنا ناكله استخسارا أو خوفا أو حتى رعبا…ما علينا.
ليلة وقفة العيد كانت ليلة مزدحمة جدا، ما بين طابور عند حلاق القرية، الذي كان يحلق لشباب ورجال لأسرة كاملة مقابل كيلة قمح أو أرز (مقايضة بلغة الاقتصاد)، وجهه لا يعرف الابتسام، يشعرنا وكأننا قطيع من الأغنام عليه أن ينتهي من جزه، أي إزالة شعره…وكنا مقتنعين أن هذه أحدث موضة!!!.
وما بين ترزي، يشعرك بأنه رجل الموضة الأول، وأنه حزين وقلق على مستقبل المهنة في حال رحيله!!…وكنا نصدق هذا والله…والحقيقة أن ملابسنا كانت مابين كم طويل وآخر قصير…وكتف مرتفع وآخر عند الكوع….المهم.
ثم تنتهي رحلة ليلة الوقفة بحماية، أي دش العيد…قبل أن يأتي صباح العيد لابد أن يكون كل أفراد الاسرة قد نعموا بحماية العيد.
يستيقظ الجميع، كبيرا وصغيرا، قبل أذان الفجر، لنصلي الفجر، ثم نتبارى لارتداء هدوم العيد، وتشعرنا الأمهات بأن ما نرتديه هو الأفضل والأجود وعلى الموضة…وهكذا كنا نشعر ونسهر طوال الليل نتملى بجمال ملابسنا..رغم ان اغلب ملابسنا في الطفولة كانت من قماش الدمور أو الكاستور…ولكننا عرفنا طعم السعادة في أحضان تلك البساطة.
بعد صلاة العيد، ننطلق، بعد تقبيل يد الوالدين والحصول على العيدية، لزيارة الأقارب والحصول على العيدية منهم….ثم التجمع في مكان المراجيح المصنوعة من الخشب، ومن يفترشون الأرض لبيع لعب بلاستيكية بسيطة. أو ركوب العجل والدراجات المكسرة، وكنا نرهن شباشبنا البلاستيكيه لدى صاحب العجل ليضمن عودتنا دون تأخير…وكثيرا ما كنا نضرب بها لتأخرنا!!
وفي نهاية يوم العيد، يدفع الأب بالأم الحنون، لكي تتقرب منا، وبعد وصلة حنان غير مسبوقة، يتم الاستيلاء على ما تبقى من العيديات بحجة تحويشها لنا…وكنا أيضا نصدق.
المهم هو أن القاسم المشترك في كل ما عشناه هو السعادة الحقيقية.
وفي الختام، أعتقد أننا رغم شظف العيش وضيق الحال في ذلك الوقت، كنا أسعد من أبنائنا، المحاطون بالتكنولوجيا من كل جانب…ربما يستهين أبناؤنا بتلك البساطة التي عشناها…لذا يوم العيد بالنسبة لهم مثل أي يوم آخر…وهذا ما نراه ونستشعره من مللهم الذي لم يعرف لنا طريقا، فكل شيء معلب وجاهز، من كعك وبسكوت وحتى التهنئة او الضحكة، جاهزة في فيديو على اليوتيوب!!!
أما نحن فقد عرفنا وعشنا الحب النقي الحقيقي، والجمال الطبيعي والسعادة الحقيقية، والأهم البراءة التي لا تعرف الزيف أو الكذب أو الخداع…ما علينا…كل عام وأنتم بالف خير وسعادة.
معلومة تهمك
تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة
تنبيه