هل كان الأمر يستحق ؟

بقلم د / هند مصطفى

بعد غزوة تبوك جاء رجلًا وجلس بين يدي رسول الله وسأله صلى الله عليه وسلم يعاتبه علي تخلفه عن المعركة :«ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» ،
في تلك اللحظة جال بخاطر كعب بن مالك اعتذار غيره من المتخلفين عن أسباب تخلفهم عن المعركة وكيف كانوا يأتون بالحجج المقنعة والكاذبة بالوقت ذاته و التي تجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منهم أعذارهم، و بينما هو يفكر اتخذ قراره الجرئ أن اقصر الطرق لاحترام الذات هي إخبار الحقيقة وتحمل مسؤولية قراره ، لذلك لم يعتذر كما اعتذر غيره،
لكنه قال :
“يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك”.

هكذا تكلم بكل قوة وجرأة، لم يعتذر كما اعتذر غيره، ولم يُنافق كما نافق الآخرون، وكان جزاؤه كما هو متوقع و مثل ما يحدث دائما وإلى الآن حين تتحلى بالصدق و الصراحة والوضوح، أن تقع ضحية براثن المجتمع ، أن يحتقرك الجميع ويتجنبك ، هكذا هي الحياة ، عندما تكون شخص صادق فأنت دائماً على المحك مع معظم المحن، موضوع تحت لائحة الابتلاء وتتابع مراحله، ثم تستمر القصة بلياليها الطويلة، أن نبذه المجتمع فعلاً هو ومن تخلف معه فاضطروا إلى ضرورة الانعزال عن الناس، لأنه أخف على نفوسهم من ألسنة كالسياط ، وكان من شدة إلحاحهم عليهم وسخريتهم منهم أنه فكر في التراجع، قال: “فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي”،

معلومة تهمك

هنا يأتي السؤال الذي نطرحه داخلنا في هذه المواقف “هل كان الأمر يستحق؟” ، إنه السؤال الذي يراود عقولنا عند كل مصيبة نقع فيها ويكون الكذب والادعاء هو مخرجنا الوحيد، هل نتحمل الصدق وتبعاته و ما يسببه لنا من مشكلات ، أم يجب أن نتجمل ببعض الاكاذيب كي نتعايش مع هذه الحياة وهذا المجتمع ،
هنا يجب أن نفهم أن الخيار متروك لنا بالكامل في أن ندنس أنفسنا أو نزكيها، نكسب احترامنا لذاتنا واحترام من حولنا لنا أو نخسر احترامنا بالكامل في معارك جانبية لا ضرر منها ولا نفع يذكر، إذ أن الحقيقة لابد أن تُكتشف يوما مهما تجملت بالأكاذيب، قد تبدو الموازنة بين نتائج اختياراتنا صعبة في هذه اللحظة ، بين قول الحقيقة أو ضياع الفرص، بين الأمانة أو ضياع الغنيمة، لكننا نوضع في تلك الاختبارات لنقيم إنسانيتنا في الأساس وقبل كل شيء آخر ، نحن لم نبرمج على قول الحقيقة وعدم الكذب لأن الله أرادنا أن نكون أصحاب قيم و لأننا أصحاب اختيار حر ولأنه بذلك يضيع معنى الصدق والأمانة الأساسي إذ أن برمجة شخص على عدم الكذب لا يعني أنه صادق، إن جبلته على المساعدة لا يعني أنه متسامح وعاطفي ورحيم ، برمجة الإنسان على حب خالقه لا يعني أنه محب، إنها صفات تولد من الاختيار الحر، من المعاناة والكسر والسقوط والتعافي والألم والجبر ، من السقوط ومحاولات البقاء، من المفاضلة بين رغباتنا، من الصراع الإنساني ، من استخدام عقولنا وأفكارنا، من إدراك قيمتنا الحقيقية وهدف وجودنا بهذه الحياة .
لذلك بعد مرور ليالي طويلة في هذا النبذ ، انزل الله عليهم توبته وسكينته بعد أن ضربوا بثباتهم أروع النماذج على صحة اليقين…
وقال تعالى ” وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ”
كانت المكافئة أن يُضرب بهم المثل في الثبات وصدق الإيمان لأجيال متعاقبة و مجدت قصتهم في آيات تتلى إلي قيام الساعة.
هناك من ينظم الحركة الإنسانية والنفسية لهذا الكون؛ وهذا وقت مناسب كي تتيقن تمامًا من ذلك ، كي تجد بداخلك تلك القدرة على تزكية روحك دون الخوف من عواقب الحياة ؛ نعم للجميع أخطاء بهذه الحياة لكن الكذب هو الخطأ الذي قد تدفع ثمنه لسنوات طويلة من الندم والاحتقار .
بنهاية هذه القصة كان الدرس المستفاد ، أن المواجهة وعدم التهرب ( تحمل المسؤوليات ) هو المخرج الوحيد لتطمئن نفسك،. ولتكتسب احترامك لذاتك ، ويكفي أن الله كرمهم بقصة تتحدث بها أجيال متعاقبة عن معنى الصدق وقيمته، أما من كذب فقد كان عقابه الضيق والنكد وعدم الاطمئنان والاحتقار إلى يوم الدين .

 

تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة

تنبيه

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

معلومة تهمك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

%d مدونون معجبون بهذه: