روسيا والناتو، حوار الطرشان. فهل تندلع الحرب في أوكرانيا

روسيا والناتو، حوار الطرشان. فهل تندلع الحرب في أوكرانيا؟

أكرم كمال سريوي
ينشر بالتعاون مع جريدة الثائر لبنان

تبدو المحادثات القائمة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أشبه بحوار الطرشان، فكل طرف يريد من هذا الحوار شيئاً مختلفاً ومناقضاً لمصالح الآخر. ولقد بلغ الصراع والتنافس بينهما حِدّة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، وهي تُعيد إلى الأذهان حقبة الحرب الباردة، وأزمة الصواريخ النووية في كوبا عام ١٩٦٢.

معلومة تهمك

المشاركة الأوروبية في الحوار خجولة وتبدو كأنها شكلية، فأوروبا لا تملك قراراً موحّداً ولا مستقلاً عن الراعي الأمريكي، وباتت في موقع ضعيف بعد أن تمكّن الأمريكيون من إحداث شرخ كبير في وحدتها، وإخراج بريطانيا من الاتحاد، وإلحاقها بحلف خماسي داخل الناتو، يضمّهما مع استراليا وكوريا الجنوبية واليابان.
وتشارك الصين في الحوار من خلف الستار. فلقد أقلق التقارب الصيني الروسي دول الغرب، خاصّةً الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعلم جيداً مدى خطورة التوأمة، بين القوة الاقتصادية الصينية، والتفوق النوعي للاسلحة الروسية. ولهذا السبب طلب بايدن التحدث مع بوتين، فور تبلّغه بالحوار الذي دار بين بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، واتفاقهما على تعزيز التعاون، خاصة في مجالي الطاقة والصناعات العسكرية.

في نفس الوقت تخوض واشنطن مفاوضات صعبة حول الملف النووي الإيراني، فالرئيس جو بايدن أنهى عامه الأول في السلطة دون أي إنجاز يُذكر، مما جعله في مرمى سهام أخصامه الجمهوريين، وحتى بعض الديمقراطيين، وبات يحتاج إلى تحقيق خرق في السياسة الخارجية، وهو الآن يلعب أفضل أوراقه ضد روسيا، عبر الأزمة الأوكرانية. ويسعى بايدن من جهة أُخرى إلى تحقيق اتفاق مع إيران، يكون أفضل ولو بقليل من الاتفاق السابق، كي يتمكّن عبره من التباهي ولو قليلاً، لمواجهة أخصامه التقليديين الذين يصفونه بالضعيف، ويَنحون عليه باللّائمة عقب الخروج الأمريكي المذل والمهين من أفغانستان.

في المفهوم العسكري تُشكّل أوكرانيا الخاصرة الأضعف للاتحاد الروسي، وتُمثّل تهديداً استراتيجياً خطيراً إذا تم ضمها إلى حلف الناتو، وقرّر الغرب وضع صواريخ بالستية وقوات عسكرية على أراضيها، وهذا: أولاً بسبب قربها من العاصمة موسكو، وثانياً بسبب طول الحدود البرية مع روسيا، وثالثاً لسهولة وصول دول الناتو إليها عبر البحر الأسود. والأهم من ذلك طبعاً هو وجود نظام مُوالٍ للغرب في كييف، ومستعدّ للمقايضة معه. بمعنى أن السلطات في كييف لها مصلحة في الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتعتبر أن هذه الخطوة ستُنعش الاقتصاد الأوكراني الذي عانى ويعاني منذ سنوات، وهي تعلم جيداً رغبة الأمريكيين والأوروبيين بالضغط على موسكو لإجبار روسيا على التنازل في ملفات عديدة، بدءاً بوقف برنامج تطوير أسلحتها التي باتت تتفوق تكنولوجياً على نظيراتها الأمريكية والأوروبية، ثم منع تحالفها مع الصين، وكذلك دفعها إلى التنازل في ملفات أُخرى أحرَجت وأزعجت الأمريكيين، مثل سوريا وفنزويلا وإيران.

هناك علاقة شخصية تربط الرئيس جو بايدن بأوكرانيا، عبر نشاطات وأعمال ابنه هانتر بايدن، والتي وُصِفت بأنها غير مشروعة، وحاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الضغط على كييف لفتح تحقيق في ملفات فساد، مُتعلّقة بهانتر ابن خصمه اللدود، واتصل ترامب بالرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي لهذه الغاية، لكن الأخير رفض طلب ترامب، ويبدو أن الرئيس بايدن حفظ لزلنسكي هذا المعروف.

لكن المصالح وليس العلاقات الشخصية هي التي تحكم العلاقات بين الدول، ولذلك فإن أوروبا غير راغبة في ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي الآن لعدة أسباب، وينظر الأوروبيون بعين الحذر إلى أوكرانيا، ويُطالبونها بعدة أمور مثل؛ مكافحة الفساد، وتحديث القوانين، وتحسين نظامها الاداري والمصرفي، قبل مناقشة انضمامها إلى الاتحاد.

لا يُخفي الرئيس الأوكراني زيلنسكي امتعاضه من المماطلة الأوروبية في الوفاء بالوعود التي قطعتها لبلاده، وهو يعلم جيداً أن الغرب لم يوافق على دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو منذ عشر سنوات، ويهادن روسيا التي ترفض تمدد الحلف شرقاً، وتُطالب بضمانات خطية بذلك.
لكن حلف الناتو وإن لم يكن راغباً بالصدام العسكري مع روسيا، لكنه لن يُقدّم ضمانات مكتوبة بهذا الشأن، ويرغب باستمرار احتفاظه بهذه الورقة، للضغط على موسكو وابتزازها في أي وقت.

لم تتمكن أوكرانيا من الاستفادة من الصراع الغربي مع موسكو، ولقد تحوّلت إلى ورقة مساومة بيد دول الناتو ليس أكثر. لقد تقاضت أوكرانيا مبلغ ٢٠٠ مليون دولار من الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، لقاء تخلّيها عن الأسلحة النووية التي كانت على أراضيها، وتم نقل تلك الأسلحة إلى روسيا، وفي المقابل تقاضت كازاخستان من الغرب مبلغ ملياري دولار، لقاء تخلّيها عن الصواريخ النووية. ومنذ أيام تم تنفيذ محاولة قلب النظام في كازاخستان، ولكن بدعم من دول منظّمة الأمن الجماعي، التي تقودها روسيا، تم القضاء على الانقلابيين، وأُعيد الاستقرار والهدوء إلى كازاخستان.
في المقابل تم الإعلان عن دعم غربي بمبلغ ٦٠ مليون دولار لأوكرانيا (وهذا مبلغ زهيد جداً في الحسابات العسكرية)، ونية أوروبية بإرسال بعض الضباط لتدريب الجيش الأوكراني، الذي هو من الناحية العملية لديه ما يكفي من الخبرة العسكرية، ولا يحتاج إلى مدربين غربيين.

لا ترغب أوروبا بالصدام العسكري مع روسيا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُحاذر التورط في صدام عسكري مع دولة كإيران، فهي طبعاً لن تتورط في حرب ضد روسيا النووية، حتى ولو غزت روسيا جارتها أوكرانيا، وهذا ما أعلنه صراحةً الرئيس بايدن، لكن أمريكا تريد أمرين:
الأول هو دفع الاتحاد الأوروبي إلى مواجهة روسيا، وفرض عقوبات عليها، لمنع بدء العمل بخط السيل الشمالي، الذي أصبح جاهزاً لضخ الغاز إلى المانيا، وهو يُشكّل منافسة كبيرة لتوريد الغاز الأمريكي إلى أوروبا.
ثانياً: تريد الولايات المتحدة الأمريكية احتواء الأزمة التي ولّدها الخلاف مع فرنسا، حول صفقة الغواصات إلى استراليا. فمن خلال الضخ الإعلامي والدعاية حول وجود تهديد روسي محتمل للأمن في أوروبا، سيطلب الأوربيون نشر مزيد من الأسلحة الأمريكية المتطورة على أراضيهم، وهكذا تؤكد الولايات المتحدة سيطرتها وقيادتها لدول الناتو، التي عليها أن تعترف بضعفها، وتقبل بالتبعية لأمريكا. والأهم من ذلك أنه من خلال هذه المناورة، سيتم تلقين فرنسا والمانيا درساً، لعدم التفكير مجدداً، بما طرحته فرنسا، من تشكيل قوة عسكرية أوروبية موحّدة، بمعزل عن الأمريكيين .

كل ذلك يفهمه القادة الكبار جيداً، ويعلمون أن لا مجال للتورط في حرب عالمية ثالثة مدمّرة، يكون مسرحها أوروبا. حتى أن الدول الأوروبية غير متحمسة لمساندة الأمريكيين في خططهم لمواجهة الصين في المحيطين الهادىء والهندي، لكن ذلك لا يعني أن احتمال التوتر والحرب غير قائم ، فالأميركيون يعتبرون البحر الأسود منطقة جيواستراتيجية هامة، ويرغبون بمحاصرة روسيا من هذه الجهة، وهذا لا يتم بدون نشر قواعد عسكرية في أوكرانيا.

تعلم موسكو جيداً ما يريده الأمريكيون، ولهذا قال بوتين نريد التفاوض مباشرة مع الأمريكيين وليس مع وكلائهم، وقد أعلنت روسيا أن مثل تلك الإجراءات للناتو قرب حدودها هي خط أحمر، وستردُّ على ذلك، ولكن ليس كما يعتقد البعض، فهي لن تقوم باجتياح أوكرانيا ودفع الأمور إلى نقطة اللاعودة، لكنها ستلعب عدة أوراق أُخرى، فقد تُعلن اعترافها رسمياً باستقلال دونباس ودانيتسك، ذات الغالبية الروسية من السكان، وقد تدعم قواتهما لضمّ مزيد من الأراضي الأوكرانية، كما قد تعمد إلى توقيع اتفاقات عسكرية معهما، وإقامة قواعد عسكرية لها على أراضيهما. كما لوّح بعض المسؤولين الروس باحتمال اعادة التفكير بنشر صواريخ روسية على مقربة من الولايات المتحدة الأمريكية في كوبا وفنزويلا.

ما زال الطرفان الروسي والغربي يُشدّدان على ضرورة حل الخلافات بالطرق الدبلوماسية وعدم اللجوء إلى العنف، وفي المقابل يبدو أن على أوكرانيا المفاضلة بين؛ ما ستجنيه من انضمامها إلى حلف الناتو في الصيف المقبل، مقابل الخسارة النهائية للمناطق الشرقية والعداء المستمر مع جارتها روسيا، أو الدخول في مغامرة عسكرية غير محسوبة العواقب، مع العلم أن الغرب سيكتفي ببيانات الشجب والاستنكار والإدانة في حال نشبت الحرب بين كييف وموسكو، والتي قد تُسعد الكثيرين من أولئك الذين ما زالوا حاقدين على الشعبين الروسي والأوكراني، منذ أيام الحرب العالمية الثانية، وما تلها من أحقاد الحرب الباردة، التي يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي ناهز الثمانين من العمر، غير راغب وغير قادر على نسيانها، وما زال يرى في روسيا، ظل الاتحاد السوفياتي، والعدو الأكبر لأمريكا، ولا يُمانع في دفع الأمور بين روسيا وجيرانها إلى حافة الحرب.

تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة

تنبيه

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

معلومة تهمك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

%d مدونون معجبون بهذه: