من ذكريات الطفولة : القعّادة

من ذكريات الطفولة : القعّادة
متابعة عبدالله القطاري من تونس

اهتمّ أجدادنا ووالدونا بابتداع مناسبات تتزامن مع نموّ المولود الجديد وتدرّجه في الحياة . فمن العقيقة إثر الولادة إلى التزحيم في نهاية الأسبوع الأول الى الإجلاس في القعادة في تمام الأربعين يوما إلى الختان للذكور …وهي مناسبات تسعى للمّ شمل العائلة والاحتفال كلّ واحد حسب إمكاناته واستطاعته ماديا .
وهذه التدوينة مخصصة لذكريات إجلاس الرضيع في القعادة وما يتخللها من مظاهر احتفالية فيها من الرمز والحكمة ووجهة النظر في كيفية تربية الأبناء منذ شهورهم الأولى .والقعّادة كما عرّفها صاحبا ( معجم الكلمات والتقاليد الشعبية بصفاقس) هي مقعد صغير للرضيع يُصنَع من الخشب المدهون وله عجلات لهدهدته عند الحاجة . وللقعادة جانبان ومتّكأ . وأضيف توصيفا للقعادة فأقول : هو مقعد طولاني بجانبين ومتّكإ بطانته من الموس المغلف بقماش الموبّر أو الجارزاي أو غيرهما .ولها باب من جهة القدمين مصنوع من خشب مخروط ( عصافر) وخشبة قليلة السُّمك والعرض في طرفها ما يشبه المسمار المعقف يثبّت في عين صغيرة من الحديد الدائريّ يُسَدّ بها السبيل أمام الرضيع للخروج .أما أسفلها فقَوْسان من الخشب يسمحان بالهزهزة .
العشية أفضل وقت للاحتفال بإجلاس الرضيع في القعادة التي تُشْتَرى له خصيصا ( من سوق العروسين بالبلاد العربي أو تُستلَف من الأهل إذا كانت من الخشب الصلب الجيّد وحافظت على سلامتها التي فيها سلامة الرضيع . لماذا عشية ً؟ ربما لتفرّغ دار الفرح والمدعوات بعد صُبحِية تُخصَّص لأعمال المنزل .
من يحضر هذا الحفل ؟ هذا أمر تقرره الأم وبمشورة زوجها و حماتها وأمها . و العدد ليس بالكثير المهول ولا بالقليل المبخوس . ومن الحاضرين أطفال يضفون البهجة على الحفل
ويزينون مجلسه .
ماذا يلزم لهذه المناسبة؟
فواكه جافة كلّ واحد حسب مستطاعه ( لوز ، جوزة ، بوفريوة ، كاكوية ) وثمة من يضيف الحمص المقلي إضافة إلى الحلوى الفاخرة أو العادية وغربال صحيح ونظيف و محرمة رأس ( فولارة) و قعادة .
كل شيء جديد في هذا اليوم المبارك . يُلبس الذكر لباسا لونه جوهريّ ( سماويّ) وتُلبس البنت لباسا لونه ورديّ ( غبرة) Rose bébé. حتى الأمّ الوالدة حديثا فتِتْزيّن وتِتْهيِّن تعبيرا عن قيامها سالمة بعد الأربعين .و كيف لا يكون هذا اليوم يوم زينة وهو يوم ( التقعيد في القعادة) !؟
كلّ شيء جاهز ، ولكن من يجلس الرضيع في القعادة أوّل مرّة ؟ قد تكون أمه أو جدته أو عمته أو خالته وإن كانت حاضرة ًعروسٌ جديدة فتكلَّف بذلك ليكون لها فألا حسنا بالإنجاب إن شاء الله .وقبل إجلاس الرضيع يوضع تحت البساط في ركن ڨرن فلفل لتصبح البنت محرحرة ومن الركن الآخر قطعة ذهبية ليكون سعدها كبيرا عند رجل يُغنيها ويَحْليها . أما إن كان الرضيع ذكرا فيوضع بركن تحت البساط ڨرن فلفل ليكون محرحرا وفي الركن الآخر كعيبات” زلّوز “ليكون صاحب باع في الفلاحة .
لهذا الحدث المحتفى به سيناريو يحسن توصيفه كما بقي راسخا في الذاكرة .يمسك أربعة أطفال ناتجين بأطراف محرمة الرأس ( الفولارة) ويعضدهم في ذلك أربع من الصبايا أو النسوة القويات وتصبّ أخرى الفاكهة ( الفاكية) في المحرمة المنصوبة فوق رأس الرضيع وليس على رأسها مباشرة فتعلو البسملة و الحمدلة والصلاة على الرسول و الزغاريد .ثمّ تقسّم الفاكهة صُررا صُررا لتوزع على الحاضرين وتوزع كؤوس الشاي والمشروبات ( روزاطة ، شراب الورد أو غيرهما حسب المستطاع) .
مالحكمة من استعمال القعادة للرضيع ؟
طبيا لا ينصح بها في شكلها الخشبي القديم . ولكن لماذا القعادة ؟ أظنها لحبس الرضيع حتى تتفرغ الأم لشؤون منزلها . أغرب ما في المسألة أن يوضع ابن أربعين يوما في محبس خشبي يُحشى بأشياء تمنع انزلاقه والتأرجح يمينا وشمالا لضآلة حجمه الصغير وعلى هذا الرضيع أن يتعود على مكانه الجديد وينام فيه إن لزم الأمر . ولا ينبغي أن يترك الرضيع في القعادة وحيدا و غالبا ما يؤمر أحد أخوته الأكبر منه سنا بهزهزته و ملاغاته حتى لا يبكي .وإذا كبر الرضيع وأصبح قادرا على التملص من القعادة فإن الأم تلجأ لشده الى متّكإ القعادة بشريط من القماش يربط من الخلف ولا يؤذيه ويحول بينه وبين الفكاك من القعادة أو السقوط منها جانبيا. وكم عانينا صغارا من عقوبة هزهزة القعادة وهدهدة الرضيع و الشدو بأهزوجة معروفة أو بأهزوجة ننظم كلماتها من وحي اللحظة .وكانت أمهاتنا أو إحدى قريباتنا يرغبننا بقطعة حلوى لنقوم بهذه المهمة فكنا نقبل شفقة و طمعا وخوفا أحيانا .
وتحتال الأم التي لا تجد من يهزهز برضيعها فتهز القعادة بقدمها وتنجز عملها في آن واحد وهذا عمل يمكن أن ينجزه أيّ أحد آخر مكانها .و من المضحكات أن تنام الأم ولا ينام الرضيع !
ننّي ، ننّي ، ننّيّة
فريصَة حمرا جرّاية
تطلّع وليدي للرّعاية ( المرعى)

أو : ننّي ، ننّي يا ننّي
يجعل وليدي متهنّي
ننّي ، ننّي ، جاك النوم
يا خديّد بوقرعون
أمّك قمرة وبوك نجوم

معلومة تهمك

ويكبر الرضيع و يصبح قادرا على الفكاك من القيد و الخروج من القعادة وتصبح مراقبته أوكد درءا لمخاطر السقوط بالقعادة وما يمكن أن يترتب عليه من إصابات . وتأتي مرحلة أخرى هي ربطه بشريط طويل تزامنا مع مرحلة الحبو . ويدرك حينذاك الرضيع أن وضعه في القعادة عقوبة جائرة فتراه يحتج بالصراخ والمقاومة بيديه و رجليه .
وختاما ليست القعادة اختراعا تونسيا فقط، ففي كل بلاد العام لهم وسائل لحفظ الرضّع وتختلف مكوناتها وتسمياتها. أما صناعة القعادات فبدأت بالاندثار وإن بقي منها شيء فهو من باب الفولكلور في مواجهة المنتجات العصرية الصديقة للرضيع و المناسبة له طبيا وصحيا .ولكل زمان أدواته ووسائله في تربية الأبناء .

بقلمي: شفيق بن بشير غربال
21 أوت 2022

تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة

تنبيه

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

معلومة تهمك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

%d مدونون معجبون بهذه: