من زيكوا إلى زغوان
متابعة عبدالله القطاري من تونس
تقع مدينة زغوان على بعد حوالي 57 كلم جنوب شرقي تونس العاصمة، و يمكن الوصول إليها من تونس عبر جبل الوسط و من نابل-الحمامات عبر بئر بورقبة أو النفيضة و من سليانة عبر الفحص و من القيروان عبر الناظور. و هي الامتداد القاري لشبه جزيرة الوطن القبلي .
تقع المدينة في سفح جبل يحمل نفس الاسم، يبلغ ارتفاعه 1295 م برأس القصعة أو ما يعرف بالسطح، و يبلغ طوله 9 كلم و عرضه 3 كلم، يطل على أراض سهلية ( الفحص و بئر مشارقة و بئر حليمة و سمنجة …)
يرتقي التعمير بمنطقة زغوان إلى فترة ما قبل التاريخ مثلما تدل على ذلك بقايا المقابر و الطوبونوميا ذات الأصل البربري. و بات من المؤكد أن اسمها ” Ziqua ” يعود للفترة البونية-الرومانية، إذ تقع مدينة زيكا أو زيكوا وسط حوض تعمير قديم و يحيط بها العديد من المواقع الأثرية مثل توبربوماجوس ( هنشير القصبات بجهة الفحص حاليا ) و موقع سمنجة في السهول الممتدة شمال جبل زغوان قرب المقرن حاليا و سجرماس ( هنشير الحارات حاليا ) و سيرسي ( هنشير أم الأبواب حاليا ) و Thaca ( تكرونة حاليا ) و خاصة أطلال بلدة Phéradi Majus الواقعة على بعد قرابة 4 كلم شمال غربي تكرونة و التي كانت مستقرا لكبار الملاكين الرومان بالاضافة إلى موقع جبل الوسط الأثري و جيوفي ( بئر مشارقة حاليا ) و حصن عين جڤارا البيزنطي.
يشكل قوس النصر الروماني وسط المدينة و معبد المياه الذي يعود لعهد الامبراطور هادريان ( حوالي 130 ميلادي )، دليلا قاطعا على أهمية مدينة ” Ziqua ” في العهد الروماني حتى أنها حصلت على لقب Municipium . و لكن يبدو أن أهميتها كانت سابقة للفترة الرومانية، فقد كانت المدينة مسرحا لإحدى المعارك الحاسمة لثورة المرتزقة في الجيش القرطاجي حوالي سنة 237 ق.م. و من بين أهم الأحداث التي جرت في هذه المنطقة خلال الفترة البونية ، يذكر المؤرخ اليوناني تيودوروس الصقلي أن أغاتوكلاس طاغية سرقسطة قد عمد أثناء حملته على إفريقيا بالأراضي القرطاجية في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد إلى إشعال النار في عدة أماكن على قمة جبل يقع بين قرطاج وحضرموت (سوسة) حتى يبعث الرّعب في قلوب سكان هاتين المدينتين. وقد ذهب بعض المختصون إلى أن الجبل المذكور لا يمكن أن يكون إلا جبل زغوان باعتباره الوحيد الذي يمكن رؤيته من كلا المدينتين. و لقد ظلت كامل منطقة زغوان إلى نهاية العهد البوني تحت حكم قرطاج ولم تشملها توسعات الملك النوميدي ماسينيسا ذلك أن حدود المقاطعة الرومانية بإفريقيا و التي تأسست على الأراضي المتبقية القرطاج بعد توسعات ماسينيسا والمعروفة بالخنادق الملكية تتوافق تقريبا مع الحدود الجنوبية الغربية لولاية زغوان الحالية.
أما خلال الفترة الرومانية و الممتدة بين 146 ق. م و 439 م، فقد عرفت هذه المنطقة مثل العديد من المناطق الأخرى أوج ازدهارها. فقد عرفت هذه المنطقة شبكة كثيفة من المدن بلغ عددها العشرين، بل و ارتقى بعضها إلى مرتبة بلدية عليا مثل توبربوماجوس التي أصبحت معمرة في نهاية القرن الثاني ميلادي و منها من حافظ على وضعه القانوني الأصلي حتى نهاية الفترة الرومانية. و قد شهدت هذه المنطقة ازدهارا عمرانيا كبيرا لازالت تشهد عليه الكثير من المعالم القائمة مثل معبد الكابيتول و الحمامات و المسرح الدائري بتوبربوماجوس و معبد المياه و قوس النصر و بئر الشاوش و أطلال جبل الوسط و غيرها . وتبقى الحنايا أهم المعالم الرومانية لهذه الجهة على صعيد كامل شمال إفريقيا و لاسيما الحنايا الكبرى التي كانت تؤمن مياه الشرب لعاصمة المقاطعة الرومانية قرطاج بداية من عهد الإمبراطور هادريانوس الذي أمر ببنائها. و قد وقع في مرحلة أولى استغلال عين تقع على السفح الشمالي لجبل زغوان أين تم بناء معبد للمياه هو من أشهر المعابد بشمال افريقا ثم و في مرحلة ثانية خلال فترة حكم السلالة السيفيرية وقعت إضافة مياه عين جوقار على السفح الشمالي لجبل الفكيرين و مياه عين جور الواقع شمال زغوان و تلتقي الحنايا المتأتية من العيون الثلاث في مُقرن و منها تنطلق نحو قرطاج قاطعت مسافة تتجاوز 130 كم.
أما خلال الفترة الموالية أي العهد الوندالي الممتد بين 439م و 535م ، فقد عرفت المنطقة تغيرات كبيرة على كل المستويات تعود جذورها الأولى إلى الفترة الرومانية المتأخرة. خاصة فيما يتعلق بانخرام النظام العمراني الكلاسيكي و ذلك بفقدان بعض المعالم لدورها الأصلي و تحولها إلى معاصر زيت أو غيره و نجد ذلك في عديد المدن مثل توبربوماجوس (هنشير القصبات) و جبل الوسط و سيريسي (أم الأبواب ) وغيرها. و قد تواصلت هذه التحولات زمن حكم البيزنطيين إثر تركيز حكمهم بإفريقيا بعد انتصارهم على الوندال سنة 535م و إلى حدود قدوم العرب الفاتحين بداية من سنة 647م وتميزت هذه الفترة ببعض الصعوبات الأمنية خاصة في بداياتها وهو ما يفسر انتشار الحصون الصغرى بالأرياف و الضيعات المتوسطة و الكبرى بالمدن نذكر من بينها حصن عين جوقار البيزنطي.
و على الرغم من أهميتها التاريخية و الإستراتيجية، لم تحظ مدينة زغوان و جهتها باهتمام كبير من طرف المصادر العربية زمن الفتوحات و خلال العهد الوسيط المبكر، إذ كل ما يتوفر بشأنها إشارات متفرقة وردت ضمن أوصاف بعض الرحالة و الجغرافيين الذين أعجبوا بمعالمها التاريخية
تغيب جهة زغوان أو تكاد بشكل شبه كلي من المصادر التاريخية للفترة الوسيطة نظرا لتغير شبكة المسالك، باستثناء بعض الأحداث المتفرقة على غرار الدور الذي قامت به مدينة الفحص أو « فحص أبي صالح » بالنظر إلى وجودها على وادي مليان كمحطة ظرفية على الطريق الوسيطة الرابطة بين تونس والقيروان والمارة عبر منستير – عثمان و خاصة أثناء بعض الحملات العسكرية خلال العهدين الأغلبي والفاطمي – الزيري
إبان الهجرة الهلالية عرفت هذه المنطقة استقرار قبائل بني رياح وانتشر فيها نمط العيش البدوي حتى أنها أصبحت تسمى بوطن رياح في الفترة الحديثة. ثم اشتهرت باستقطابها للعباد والنساك والصالحين من الرعيل الأول ولاسيما أقطاب الشاذلية تواصلا لما كانت عليه المنطقة خلال القرون الأولى للفتح الإسلامي من أن جبلها كان «مأوى للصّالحين وخيار المسلمين» حسب البكري. و «أن بها قوما منقطعين للعبادة و أن قلعتها رومية قديمة منيعة » حسب الحميري في الروض المعطار. و بالفعل كانت زغوان لمناعتها ملجأ أو منفى خلال فترات مختلفة من تاريخها الحديث و المعاصر فقد لجأ إليها سنة 1534 أهل تونس فرارا من مواجهة الجيش الاسباني الذي احتل العاصمة فيما يسمى بخطرة الأربعاء ، و لجأ إليها سنة 1694 الأديب حسين خوجة صاحب كتاب « ذيل بشائر أهل الايمان بفتوحات آل عثمان » هاربا من بطش الدايات ، كما نفي إليها اصطا مراد و مراد باي و محمد منتشالي و في الفترة الحديثة نفي إليها الزعيم النقابي الحبيب عاشور الذي استقر بها عدة سنوات . و لا ننسى اختيارها من قبل شيوخ أندلسي تونس الحاج علي كاطالينة و محمد قرمطّو و القسطلي لاستقرار جالية أندلسية سنة 1680م.
و عموما إذا استثنينا بعض الإشارات الموجزة في المصادر الوسيطة فإن الوجود الفعلي و الثابت لزغوان يعود لبدايات القرن 17م مع قدوم المجموعتين الأندلسية و التركية و من لحق بهما من المجموعات الأخرى ( وسالتية و طرابلسية و مثاليث و همامة ..) ضمن مشروع تبنته السلطة آنذاك للاستقرار البشري في هذه المنطقة التي تحوي ثروة مائية هامة. و ستحظى هذه المدينة باهتمام كبير من طرف البايات المراديين الذين خصوها بعناية كبيرة عبر العديد من مشاريع التهيئة العمرانية و تشييد بعض المعالم على غرار بناء زاوية سيدي بوقبرين بجبل زغوان في سنة 1066هـ / 1655م بأمر من الداي مصطفى لاز ، كما ستتواصل حظوتها الصوفية من خلال استقطابها لأحد أكبر أولياء تلك الفترة ألا وهو سيدي علي عزوز
و قد بلغت هذه المدينة أوج ازدهارها مع بناء أحد أجمل و أضخم المعالم الصوفية ليس فقط بزغوان و إنما بإيالة تونس عموما وهي زاوية سيدي علي عزوز بأمر من الباي المرادي محمد الحفصي في سنة 1091هـ / 1680م ليكتمل عمرانها بإضافة بعض المرافق الأخرى من أسبلة و أسواق و مطاحن و حمامات على غرار حمام السوق و الكرمة و الجديد. و بذلك مثلت هذه المدينة أحد أهم المراكز الحضرية بإيالة تونس خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.
و باستثناء مدينة زغوان و الزريبة و حماماتها الساخنة و الفحص و قنطرتها و موقعها على مسلك المحلة و علاقتها ببعض الأحداث العسكرية لم تذكر مصادر الفترة الحديثة مدنا أخرى أو تجمعات حضرية ذات أهمية كبرى مقابل افتتانها بتعدد المخلفات الأثرية وإجماعها على الطابع الريفي للمنطقة وتوزّع عديد المجموعات البدوية المتنقلة والباحثة على المياه وعلى المراعي.
خلال فترة الاستعمار الفرنسي جلبت هذه المنطقة اهتمام المعمرين الفرنسيين نظرا لخصوبة أراضيها، إذ انتشرت بها عديد الضيعات الفلاحية و الوحدات التحويلية الصغرى و لاسيما في مجال زراعة الحبوب و غراسة الأشجار المثمرة و غيرها… كما نشأت بها خلال الفترة نفسها بعض الصناعات المعملية و خاصة المتعلقة بمواد البناء و المتركزة على بعض الموارد الطبيعية كالمقاطع و المناجم، هذا بالإضافة إلى تواصل نشاط محطاتها الإستشفائية بكل من الزريبة وجبل الوسط.
#حاتم_الضاوي
يتبع
المراجع :
_ محمد قريرة و فتحي جراي : زغوان و جهتها من الفترة القديمة إلى الفترة المعاصرة ، مختارات من الأيقونة التراثية بولاية زغوان
_ محمد ضيف الله : المجتمعات المائية بتونس ، قبلي رو زغوان في القرن التاسع عشر
_ المنجي بورقو : مواقع تونسية ، مائة موقع و موقع
_ أحمد الحمروني : معجم المدائن التونسية
_ Alix & Roland Martin : Histoire De Tunisie ; Zaghouan ; La cité Historique et ses richesses
_ Azzouz Bouazza : Les ceremonies du mariage dans le Zaghouanais, Nord de la Tunisie.
تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة
تنبيه