وانشق القمر

وانشق القمر قصة قصير للكاتب د محروس عامر

وانشق القمر

قصة قصيرة بقلم  د محروس عامر

بينما كان وليد يرتب حقيبة سفره يجمع ما يجب عليه اصطحابه من أوراق وأغراض ومن ذكريات وقلبه مليء بمشاعر البعد والفراق، مستحضرا في الوقت ذاته ما ينتظره في الجانب الآخر من التزامات ومهام يريد ان ينجزها مستحضرا لهفة اللقاء وراحة القرب لمن يحب. يشرد ذهنه ويرسم الحزن ملاحمه علي وجهه فتتباطأ حركته، فوداعه لرغد ترك في نفسه شقا غائرا فهي تلميذته وصديقته وزميلته في العمل التي رافقته سنوات طويلة، فحياته المهنية التي امتلأت بالنجاحات والإنجازات لم تكن مفروشة بالورود دائما  بل تخللتها صعاب وتحديات مختلفة في أنواعها ومتباينة في شدة قسوتها، فبعضها تحديات مهنية وبعضها مشاكل وجودية كادت ان تعصف بأحلامه وتقضي علي مشروعه وكانت رغد دائما الركن الآمن الذي يلجأ اليه ويبثها مخاوفه وكانت ساعده ومساعده وعندما كانت تنتابه لحظات والوهن ويتراءى أمامه شبح الهزيمة وتتراقص راية الاستسلام كانت رغد تشد من أذره وتذكره بأحلامه وتستهض فيه قدرته علي المقاومة فتعود له قدرته علي المواجهة حتي تهدأ العاصفة وتستقر الريح وتأخذ السفينة تجاهها الصحيح وتواصل إبحارها إلى مبتغاها.

 

معلومة تهمك

أما رغد فقد وضعت تقديرها لوليد ووفائها له التزام عليها وواجب الّزمتْ به نفسها فهو أول مدير عملتْ معه بعد رحلة مضنية للبحث عن عمل استمرت سنة كاملة، كما ان وليد لم يكن فقط مديرها بل كان معلمها وقدرتها ومثل تحتذي بسيرته وأخ تلجأ اليها عندما تتشابك أمامها الطرق وتتداخل الخيارات ولا تدري أين تتجه، فيعيد لها بَوصَله حياتها، فتهدأ وتستقر. تلك العلاقة التي استمرت سنوات طويلة جعلت التقدير والتفاهم يتنامى ليصل لمستويات يصبح بعدها الفراق أمرا بعيدا عن التصور. ولما كان التغير هو الشيء الثابت في حياتنا، ولما كان دائما للقدر كلمته، فرض الفراق نفسه عليهما فلم يعد قرار الاستمرار هو قرارهما ، أصبح تركها للعمل هو أفضل الحلول بل ربما الحل الأوحد فلقد تغيرت الرؤى واضطر وليد علي إعادة هيكلة عمله، فتنامت الفكرة وفرضت نفسها بل ووجدا نفسيهما يسعيان لتحقيقها رغما عنهما، لعلهما في سبيل ذلك يتمنيان الا يحدث ولكنهما مستمران في تنفيذ ما يمليه عليهما القدر … لا تتخيل ابنة الأربعين عاما ان تعمل في مكان آخر وأن تتفاهم مع شخص آخر بعد خمسة عشر عاما من العمل مع وليد ولم يتخيل وليد انه سيضطر أن يقص شطره بيده، ولا يتوقع الأن أنه سيكون قادرا علي بناء ذلك الصرح من الثقة والتفاهم مع شخص آخر. شكّل السفر الأن فراقا رمزيا إستعدادا لاكتمال إسدال الفراق ستائره السوداء التي تحجب كل شيء واضعة نهاية لقصة رغد.

 

“كدت ان أنسي رابطة العنق” يحدث نفسه وليد وهو يفرد في الحقيبة رابطة العنق الكحلية اللون والموزع عليها نجوم حمراء قانية…  فهي رابطته المفضلة التي يشعر بالقدرة عندما يرتديها فنجومها الحمراء تأبي الاّ ان تشرق من خلال سمائها الداكنة وتعلن انهزام الظلمة وأن ما نستطيع فعله أكثر مما فعلناه فهي لم تشق الظلمة فقط بل جمعت من خلفيتها الزرقاء الحكمة والخبرة فتشرق واضعة بداية جديدة لمرحلة أفضل.

 

يتلمس هديته للمياء؛ شريكة عمره ورفيقة دربه؛ التي يجد لديها الدفيء والأمان في بحر من الصبر لا ينفذ، كانت ولم تزل قائمة علي بيتها مكملة ما انشغل عنه وليد من أدوار، واهبة كل حياتها ومجهودها لأسرتها الصغيرة مضحية بكثير من احلامها وتطلعاتها الذاتية …  يتذكر حينما كان يرقبها في غبطة داخلية وهي تدير صراعات ضده لما يفيد الأسرة وتتخذ من اولادها ساترا من رفضه طلباتها وأحيانا تجعل منهم قوة الهجوم عليه فهو لا يقوي على التصدي لهم لأنهم غاية ما يفعله ومآل ما لديه.

 

“يحدث نفسه” يجب عليّ أن أتحدث مع أسرتي؛ فلقد غطى الشيب شعري وتجاوزت منتصف العقد الخامس وأصبحتْ اشعر بالإجهاد بعد بذل اليسير من الجهد، انها سنة الحياة ويبدو لي ان الشيخوخة تسربت لي دون ان أدري. ان اولادي الآن تخطو مرحلة الصبا والجامعة فعليهم ان يبذلوا قدرا من الاهتمام والعطف أحيانا، ذلك الذي لم أكن في حاجته سابقا بل كنت انا مصدره لهم، أما الآن فاني اعترف إني أريد ان أصطحب أولادي في زياراتي كي أتباهى بهم وان أشعر بالقوة في وجودهم حولي، أن أشعر وان يرى من حولي ان الشجرة التي رعيتها نمت واثمرت…

فهل يستجيب الأولاد لمناشدة الأب؟ وهل يقوى هو على البوح؟ وهل تطاوعه نفسه ان يحكي لهم قصص اخفاقاته ويعبر عن شعوره بالضعف …؟ تمنى لو يتفهم الاولاد ذلك دون حاجة للبوح!

 

لقد بكت رغد عندما علمت بسفره، انهمرت دموعها وهي واقفة أمامه في مكتبه فتوارت مسرعة. وبعدها بلحظات انتبه لصوت بكائها في مكتبها فقد تكالبت عليها الاحزان وكأن الفراق أصبح ملازما لها يخطف منها مصادر الأمان الواحد تلو الآخر، واستحضرت فراق والدها والآن فراق وليد. شعرت بالضعف وكأن البنيان من حولها ينهار جدارا جدار لتصبح وحيدة في مهب الريح. انهمرت دموعها رغما عنها وهي لا تدري هل تبكي حالها ام فراق وليد؟ أم انها خائفة من مجهول يترقبها ولا تدري هل ستكون قادرة وحدها ان تواجهه؟! لم يجد وليد ما يفعله حيال ذلك آثر أن يختزن داخله ما اعتراه من ألم كاد ان يشق قلبه وهو يعلم ان هذه قد تكون أخر مرة يلتقيها فعند عودته غالبا ستكون التحقت بالعمل في مكان آخر. بينما هو منغمسا في عمله تراءت صورة ابنته امامه وهي تضمد له جرحه باهتمام ويتذكر ما أحضره لها من هدايا ولهفة لقاء لمياء وما جهزته من وجبات تعلم انه يحبها نعم اشتاق لعائلته ويتلهف للقائهم بعد الغياب.

تتتابع المشاعر المتعارضة داخله تلاطم الامواج او تتابع الليل والنهار دوامة لا تنتهي ودوران كدوران الكون لا يعرف الاستقرار.

يضع وليد جسمه المتعب في السيارة المتجهة للمطار مصطحبا أوجاعه ومخاوفه وأماله ولهفته وحقيبة سفره وقلبه الذي لا يدري هل يسافر به أم بشق منه.

تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة

تنبيه

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

معلومة تهمك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

%d مدونون معجبون بهذه: