هجرة الأحياء
(بقلم الأستاذة سحر كريم)
دائما مانحتاج لأسباب قد تكون أقوى من المنطق وأكثر سطوه وحضورا لكى نبرر الهجرة وأسباب أكثر إنفعالا وأكثر تحدثا لكى ترافقنا وتحدثنا عن جذورنا التى لطالما نبتت فى الأماكن التى من الصعب أن نستقر بها باحثين فى أنفسنا عن العوده أملين فى البقاء
وقد تطول الهجرة وينتهى بنا العمر كلحظه فى الإنفجار الذى يدوى فى كل مكان صوت بنادق ومدافع ينتشر ويدوى نبحث بين طياته عن قلبا لا يأبه مواسم الخريف والهجرة
فطريق الهجرة طويل ومحفوفا بالمخاطر يجد الإنسان نفسه فيه فى مكان بعيد يشبه الغربه وأسمه غريب يبحث فيه عن قلب يؤنسه وروح تألفه هاجرت منذ زمن طويل قبله
ويجلس على حافه الطريق طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره فوق أنقاض الهدم لمنزل كان يوما ممتلئا بأسره صغيرة لأب حنون وأم تعرف معنى الأمومة فى تصرفاتها وأخوات كثيره كبار يتلقى منهم العلم والتوجيهات تاره وأخوات يقسو عليه بعض الشئ عندما يتجاوز الحدود ويذهب لأمه شاكيا مافعله به أخوه فتربت عليه وتلوم أخاه بألا يقسوا عليه مرة أخرى
يشعر الطفل بحنان أمه ودفء الأسرة الصغيرة التى يتلقى فيها العلم والتربية والتوجيهات ويذهب خارج المنزل ليجلس على سور منزله باحثا فى خياله عن أحلامه الصغيرة ممسكا بقطعه من الطباشير يسطر بها على الأرض لتعلمه لعبه أتقنها وهى السيجه ولا يلبث الصغير إلا أن يسمع إنفجار مدوى وناس تجرى فى كل مكان صوت قنابل لم يتعود الصغير على سماعها وناس تهرع هنا وهناك ويجرى الطفل باحثا عن مأوى ويدهسه الكثير ممن يهرولون مسرعين مابين مصابين وأحياء وموتى
يحاول الطفل الصغير أن يلتصق بجدران منزل قصفته القنابل باحثا عن مأوى فلم يعد يرى والده ولا أسرته وتبقى قطعه الطباشير بيده ينظر إليها فى صمت وكأنها ستسطر له حياته
ويطول الإنتظار دون جدوى
ويشعر الطفل بجوع شديد فلم يعد لديه من الطعام مايكفيه ويمد يده إلى جيبه فيجد قطعه من الخبز قد أخذها قبل أن يترك المنزل باحثا عن اللعب وعندما يقربها إلى فمه يسمع بجانبه قطه تشعر بالجوع مثله بجانبه يحتار الطفل فى أمره أياكل قطعه الخبز أم يقتسمها مع تلك الهره فلم يتمالك الطفل إلا أن يقطع قطعه الخبز إلى نصفين يأكل جزء ويترك لها الجزء الأخر تلتهمها القطه وهى فرحه بما وجدته من طعام وتجلس بجانبه وهى تنظر إليه وكأنها تقول له شكرا لقد أطعمتنى ولن أنساك
ويبحث كلا منهما عن الماء ولكن دون جدوى
وتذهب القطه بعيدا ويظن الصغير إنها قد ذهبت ولن تعود وحزن الطفل لأنه إعتاد على وجودها بجانبه لتؤنسه فى وحدته
وتقطع القطه مسافات باحثه عن الماء فتجد كوبا ملقاه على الأرض فتمسكه بين أنيابها وتحاول أن تضع الماء فيه من زجاجه كانت بجانب أحد الضحايا فيشعر بها رجلا فيضع لها الماء فى الكوب فتمسكه بفمها وتعود إلى الطفل الصغير لتقول له إن تلك المكان هناك به ماء تعالى لتشرب
يفهم الطفل المعنى ويذهب وراءها فيجدها تسير بجانبه وكأنها ترشده للطريق ويصل الطفل للمكان ويعود لمكانه شاكرا صاحب الماء
ويسدل الليل ستاره
وعجبا لك أيها الليل يقولون عنك أنك هادئ وفيك تصرخ كل القلوب لتفصح عن الضجه التى بداخلنا وليست من حولنا
يخيم الظلام الكثيف ويسكن الليل فى تلك المكان الشاحب والذى يعبر فى مضمونه عن مدى الحزن العميق وتضييق فيه النفوس هدوء ولكنه ليس بهدوء بما فيه من فوضوية بمضمونه المملوء بالتعب والخوف وكثره الكتمان
بما يملأه من أسرار إناس تهب عليها الرياح ويفارق ويذبل الغصن اليانع
فياليت الرياح تسألنا عما نشعر به من إحساس وتلك السكون فى الليل من مشاعر
وتزداد القنابل فى كل مكان ويكثر الجرحى والمصابين ويجلس الطفل يرتعد خوفا وقد أظلم المكان وإذداد البرد القارس وتلبدت السماء بالغيوم وتصطدم الغيوم وينهمر المطر ويتذكر الطفل عندما كان يأتى الشتاء وينهمر المطر يركض فى ثوب وردى ولكن الأن لم يعد هناك تلك الثوب الوردى ولا رائحه المطر ونسيم البرد الذى كان يراقص أغصان الشجر وتلك الموج الهادئ الذى كان ينساب من بين أيديه على تلك الشاطئ القديم
فياليت يسقط المطر ليغسل الالام الجرحى ويبدد الأحزان
وينظر الطفل للسماء ويمد يده لكى يطول حبات المطر وكأنه عصفور ذهب ليجمع عشه وعاد ليرتاح على غصنه
وتشعر القطه بالبرد القاسى الذى يشعر به الطفل الصغير فتذهب بعيدا باحثه عن شيء تنقذ به صديقها وتبتعد قليلا وهى تسمع صوت صديقها وهو يقول أين ستذهبين إن الظلام أصبح حالكا والقنابل تدوى فى كل مكان ولم تلتفت إليه الصديقه وتذهب بعيدا وتعود بعد قليل وفى فمها قطعه من الخشب فيفهم الطفل الصغير ماتريده إنها ذهبت لتعود بقطعه من الخشب لتعرفه إنه يحتاج لبعض الأخشاب لكى يوقدها للتدفئه ويمشى الطفل بجانبها إلى مكان كثرت فيه الأخشاب فيلتقط الطفل البعض منها ويطلب من أحد الجالسين على الأنقاض عيدان من الكبريت ليشعلها
ويعود الطفل مع الصديقه ويشعل الخشب للتدفئه
ويجلسان سويا ربما يأتى القدر بشئ جديد وتدوى القنابل وتذداد رغم تلك الظلام الحالك
إلا أنه لا مفر ففى الصباح حياه تشرق الشمس كعادتها ولكننا لا نرى شروقها إذا كانت قلوبنا مطفأه ولا نراها إذا كنا نضع أيدينا أمام أعيننا التى تمنع النور أن ينفذ إلى داخلنا ومهما كان من جمالها من إشراق فنحن لا نرى جمالها مادام لا تملأ قلوبنا الأمل والرضا
وتبعث الشمس أشعتها لتدفء الوجود وتبدأ الحياة مرة أخرى تعانق خيوط الشمس فى كل أرجاء السماء وننهض ونشرق كما تشرق هى لنتعلم منها معنى العطاء بلا حدود
فهل تكف المدافع ؟ وهل تقف القنابل ؟
وتجلس الصديقه بجوار الطفل قطه محبه للإستقلاليه قد يكون التغيير فى مزاجها اليوم مزعجا لها تجلس فى صندوق كرتونى صنعه لها الطفل ليحميها من البرد القارس ويجلس بجانبها يطعمها وهو يعلم جيدا بأن الطعام لن يكفى
ولكن مايلبث الطفل إلا أن يلتقط أنفاسه الأخيرة بعد أن قذفت القنابل المكان الذى كان يأويه وتجلس القطه بجانبه لا تستطيع حراكا سوى البكاء
ويحضر والده بعد أن يدله الناس عن مكانه
طفله الوحيد الذي قد فارق الحياة ينظر إليه الأب وهو يضعه على رجليه باكيا وكأنه ينظر من تعب لباب الوطن ينظر من قلب مثقوب ولا يستطيع فى تلك اللحظة أن يفرق بين الوطن والوطن المغلوب وبعد أن ينتهى من عمله يغتاله الشوق لوطنه وتحيط به لجج الحروف فمن بلاء إلى بلاء
ينظر لطفله وهو يقول هل يشبهنى أحد غيرك ؟ لقد أصبحت فى الهجرة مقيما تمعن فى الهجرة أذهب أركض سريعا يابنى فكم سيصبح عمرك منذ أول ميلادك وأنت مهاجر
وتتسلق القطه لتجلس بجوار الطفل النائم تجلس بجانبه تبكى وتلفظ أنفاسها الأخيرة
ويحتار الأب أيهما يدفن يدفن طفله الذى كان يتمناه فى الدنيا وليكون له سندا فى الكبر أم الصديقه التى لم تتركه فى أحلج المواقف
فكم فى الدنيا من أسفار أطول وأبعد
يالها من روعه فى الهجرة فأحيانا تكون عقيده وتضحيه وفداء وكفاح وإصرار يرتحل الإنسان فيها بعدها مسافرا مهاجرا وشهيدا ليكتشف له مسكنا أخر قد يكون على بعد ملايين من الأميال أو أكثر له فيها من الراحه والسكن أكثر مماعاشه صغيرا على الأرض يجد فى هجرته أصدقاء عرفهم وإخوه لم يكن يعرفهم من قبل
فاجعه تلك الهجرة يتم إدراجها فيما بعد على مراحل لكى يستوعبها العقل
فبإنغلاق تلك التابوت يجيب الناظر عليه من أسئله التى طالما كانت مفتوحة وباقيه عمرا بأكمله
وتبقى الهجرة قاسية فى النسيان ولكنها لا تنتج للإنسان معرفه أكثر مما يجب أن يمتلك فيها سوى ذكرى وكأنه حلم ومضى
وهناك وهناك فقط يسأل عما فعله يحاسب على أعماله يكشف فيها عن نفسه بعد أن نقيت من الشوائب وتطهرت من الإثم والحقد والكراهية يسموا فيها بهجرته لأفاق رحب لا يهم فيها مايراه وماسيعانيه سوى إنها كانت نفس ورحلت
فكم من إناس عاشوا ينتظرون الهجرة والإشاره بالرحيل وكأنهم يعيشون فى الدنيا بالنيه وكم من إناس رحلوا بأرواحهم ولا تزال أجسادهم تتحرك وسط إناس وكأن أجسادهم موتى فلم يعد لهم روحا إلا حلم يتهيأ للرحيل الأخير
فياشهيدا سلاما لك وحدك فإنك حي وكلنا أموات
فقد عشت فى ظل العقيدة ثابتا راسخا وأبيت إلا أن تموت أصيلا فلا شكوى بعد الفراق ألما
فدائما يغيب القمر بعد ظهوره ليرمى ماحمله بالأمس ويعود لنا قمرا جديدا
Sahar korayiem
تنبيه هام، المنشور يعبر عن رأي الكاتب ويتحمل مسؤوليته، دون ادنى مسؤولية علي الجريدة
تنبيه